النقد الثقافي في المغرب-على هامش الندوة العلمية حول مشروع الناقد الثقافي عبد الرزاق المصباحي -
تقرير: د. محمد سمكان
نظّم فريق البحث الطرائق والمناهج (new-dicta) بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين مراكش آسفي (الفرع الإقليمي بالصويرة)، بشراكة مع جمعية الصويرة موكادور ندوة علمية في موضوع: "النقد الثقافي عند عبد الرزاق المصباحي: المرجعيات والإجراء شهادات وقراءات" وذلك يوم السبت 26 ماي 2025 بدار الصويري (بالصويرة)، حيث التأمت مجموعة "أصدقاء النقد الثقافي في المغرب" احتفاء بهذا النقد، وتكريما لرائد من رواده بالمغرب وبالوطن العربيّ الدكتور عبد الرزاق المصباحي من خلال قراءة مشروعه العلمي الذي يمتح من حقول معرفية متنوعة، وتشرَّب أسسه الأولى من مدارس فرانكفورت وبيرمنغهام ومثقفي نيويورك.
وللمصباحي أعمال نقدية مستوعبة وقارئة أولًا لما تحقق في الساحة الثقافية العربية والدولية، ومؤسِّسة ثانية لممارسة نقدية ثقافية برؤية وتصوّر عربيين، ويتجلى ذلك في نحت الناقد لمجموعة من المصطلحات التي استثمرها في دراساته النقدية والتحليلية لبعض الأعمال الروائية، بالإضافة إلى الممارسة التطبيقية لهذه الأدوات النقدية. وأمّا الأعمال التي تمت قراءتها من قبل المشاركين فهي الحصيلة العلمية التي أنتجها المصباحي، وعلى التوالي: "النقد الثقافي من النسق الثقافي إلى الرؤيا الثقافية" (2014)، "الأنساق السردية المخاتلة: شعرية السرد، تذويت الكتابة، مركزية الهامش (2017)، "النقد الثقافي: قراءة في المرجعيات النظرية المؤسسة" (2022)، "الرّواية والحدود: من التّقاطبيّة الثّقافية إلى الفضاء الثّقافي" (2024)، "كتابة الرواية مفاهيم وتطبيقات نقدية" (2025)، والكتاب الأخير بالاشتراك مع الكاتب والناقد والروائيّ القطريّ د. أحمد عبد الملك.
وقد استُهِلّتْ هذه الندوة الوطنية بجلسة حوارية أجاب فيها المصباحي عن مجموعة من الأسئلة المعرفية والعلمية كما سلّط من خلالها أضواءً على سيرته الذّاتية، وقد نشَّط هذا "الحوار المفتوح " الأستاذ عمر تابنت من جامعة السلطان مولاي سليمان؛ لينطلق بعد ذلك المشاركون في عرض أوراقهم العلمية حول مشروع الناقد، ثمّ مناقشتها فيما بعد. وقد يسّر هذه الجلسة العلمية الباحث يوسف عابدات عن المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فرع الصويرة.
عبد الرزاق المصباحي وسؤال النقد الثقافي
افتتح الأستاذ عمر تابنت (باحث من جامعة السلطان مولاي سليمان): مداخلته بأهمّ الإشكالات التي تواجه الباحث في مجال النقد الثقافي سواء على مستوى التنظير أو الاشتغال مؤكّدًا دور الناقد والباحث المغربي عبد الرزاق المصباحي في إضاءة هذه الإشكالات ودورها في تطوير الممارسة النقدية الخاصة بالنقد الثقافي انطلاقا من المؤلفات الآنفة الذكر.
لقد شكّل الكم المعرفيّ الذي راكمه عبد الرزاق المصباحي منعطفًا حاسمًا في تشييد منهجه النّقدي حيث تشرّب من مدارس متعدّدة، وإن بدا تأثّره بالنّاقدين دوغلاس كلنر وستيوارت هال واضحا من خلال استلهامه لمفهوم "التّمفصل بين المنظورات" الذي ربطه بعنصر أكيد هو "أهداف القراءة" ، وهو ما قاده إلى بلورة تصور منهجيّ واضح يقوم على الاشتغال بمنظورات محدّدة على الأقلّ من منظورين، وإن كان يعتبر أنّ الغدامي هو المعلّم الأول للنقد الثقافي بالعالم العربي عموما والمغرب خصوصًا، وعبره يتوصل المصباحي إلى أنّ النقد الثقافي هو فضاء للاختلاف؛ يفكّك الخطابات التي تقوم على المعتمَد والمؤسّسة لصالح فضاءات ثقافية منفتحة وحوارية، وهذا جوهر النّقد الثقافي ووظيفته الأصليّة حيث يفتح آفاقا موسّعة من الحوار المنتِج.
وبناء على هذا الطرح يرى المصباحي أنّ الالتزام بالشروط المؤسِّسة لمشروعه (اختيار المنظور المناسب، تحديد أهداف القراءة، تحديد طبيعة الجنس المقارب...) ستقودنا حتمًا إلى تجنّب فوضويّة القراءة؛ بل وإعادة النّظر في الكثير من القضايا التي شكّلت مثار خلاف ونقاش بين النّقاد من جملتها أنّ النقد الثقافيّ هو نقد تكامليّ أو هجين أو بديل للنّقد الأدبيّ.
وهكذا شيّد المصباحي معالم منهجه النّقدي مؤمنا بالاختلاف متى دفعت الحاجة إلى ذلك، أو الاتّفاق إن كان الأمر لا يمارس تشويشًا على القراءة الثقافية، وفي هذا السّياق اجترح النّاقد مفاهيم متنوعة لتطوير الممارسة النّقديّة الثقافيّة وهي تتأثر وفق الشّروط التي اقترحها من قبيل (البليغ الثّقافي، الرؤيا الثقافيّة، الحدود التّطهيريّة، الفضاء الطّاهر...)، والتي لم يكتف بالتّنظير لها؛ بل اشتغل بها سواء في الشّعر، مثلا: ديوان "كزهْر اللّوز أو أبعد" لمحمود درويش، أو في السّرد رواية "ساق البامبو" لسعود السنعوسي ما يعكس رؤيته النّقدية القائمة على المزاوجة بين التّنظير والتطبيق.
وفي الأخير يمكن القول إن حيويّة المصباحيّ في مجال الكتابة وخاصّة في النقد الثقافي كتابة نقديّة موجَّهة وموجِّهة، لا تسلِّم بالجاهز ولا تقتفي النمطي؛ بل مثّلت نتاجًا عظيمًا لخيال خلّاق على حدّ تعبير إدوارد سعيد.
نحو فضاء ثقافي مشترك: المصباحي قارئًا لموسم الهجرة إلى الشّمال
بماذا يفرح الكاتب إن لم يكن بكتاب يؤلّفه، أو مقالة يحرّرها، أو فكرة يطارد تفاصيلها فيمسك بشيء من معانيها؟ هكذا استهل الباحث عز الدين جبار (باحث من جامعة السلطان مولاي سليمان): مداخلته حول كتاب: "الرواية والحدود، من التقاطبية الثقافية إلى الفضاء الثقافي"، وهو مؤلَّف للباحث والأكاديمي المغربي عبد الرزاق المصباحي، كما يُعتبر منجزا ضمن عقدِ مشروع متكامل في النقد الثقافي لذات الباحث.
يصدر الكتاب عن وعي عميق تجاه نظرية النقد الثقافي باعتباره إجراء غير نهائي وفي كل مرحلة يعتريه تطور وتحوّل في جهازه المفهومي، كما ينطلق الكتاب من أطروحة تفكّك مركزية الغذامي بعد استيعاب المفاهيم التي صاغها في نظرية النسق الثقافي وتجاوزها إلى اجتراح مفاهيم جديدة في هذا الحقل المعرفي.
إنّ المصطلح النقدي المنشود في تصورات المصباحي يرغب في التحرر من كل التحيزات الضارة بصورة الناقد الأدبي الموضوعي الذي يملك الجرأة في التنقل ذهابا وإيابًا في مختلف المقاربات النقدية وفق مبدأ ملاءمة النص الأدبي مع أدوات الاشتغال الأنسب له، لأن النص حسب المصباحي يختار الإجراء النقدي الأقدر على الإفادة في قراءته وتأويله، ولا يجب أن يخضع لمنطق "سرير بروكرست".
وقد سلط الباحث عز الدين جبار الضوء على المجهود النقدي الذي خصّصه صاحب "الرواية والحدود" لرواية الطيب صالح: "موسم الهجرة إلى الشمال" وجعله عمادا لعنوان مداخلته: "نحو فضاء ثقافي مشترك، المصباحي قارئا لموسم الهجرة إلى الشمال "
إن المفهوم المركزي الذي ينطلق منه عبد الرزاق المصباحي هو مفهوم (الفضاء الثقافي)، والذي يفترض أن ما يجمع الأفراد والشعوب أكثر مما يفرّقهم؛ لذا نحن في أمسّ الحاجة إلى إلغاء "التقاطبية الثقافية" التي تشتغل برسم الحدود والموانع بين الأنا والآخر وبين الهنا والهناك، حيث تقدِم الجماعة على تطهير المكان من المختلف ومن البعيد الوافد من الهناك، ولا تعترف إلا بقيم الهنا، إنّ المكان بهذا التحديد يصنع المواقف والمواقف المضادة على حد تعبير الباحث والأكاديمي عبد الرزاق المصباحي، يكفي أن تتحدث لغة مغايرة ليتم تصنيفك في خانة خاصة، يكفي أن تكون بشرتك غير مشابهة لبشرة سكان المكان الذي تحلّ فيه حتى تجد نفسك محاطا بتمثيلات مغلّفة بهواجس تاريخية أو دينية أو سياسية.. فهل جُبِل الإنسان على رسم الحدود وعلى تطهير المكان من المختلف؟
كتاب المصباحي دعوة لصناعة فضاء يؤمن بالغيرية والاختلاف وإسقاط التقاطبية التي تدفع نحو ترسيخ التمركز حول الذّات وإقصاء الآخر من المكان ومن الوجود أصلًا.
تبسيط الثقافة السردية في كتاب "كتابة الرواية"
قدم الدكتور محمد سمكان (الأكاديمية الجهوية لمهن التربية والتكوين الدار البيضاء سطات) قراءة في كتاب (كتابة الرواية: مفاهيم وتطبيقات نقدية)، بالاشتراك بين الناقد والروائيّ القطري الدكتور أحمد عبد الملك والناقد الدكتور عبد الرزاق المصباحي. فالعنوان يطالع قارئه بمكوّنين اثنين يُعبّران عن عمل كلّ ناقد من الناقدين في ثنايا هذا الكتاب؛ فقد اشتغل أحمد عبد الملك بالمفاهيم في الشّقّ الأول من الكتاب، وأمّا الشقّ الثاني التطبيقي فاشتغل به عبد الرزاق المصباحي؛ إذ قام بتنزيل الدراسة النقدية السردية على ثلاث روايات عربية تشترك في معيارين اثنين؛ "معيار قيمي" وهو الفوز بجائزة "كتارا" و"معيار فضائي" وهو تغطية هذه الروايات الثلاث للفضاء الجغرافي العربي؛ فالرواية الأولى بعنوان : "ميهود والجنّيّة" للروائي أحمد عبد الملك (الخليج العربي)، ورواية "حدث في الإسكندرية" للروائي سالم محمود سالم (الشرق الأوسط)، ثمّ رواية "عذراء غرناطة" للروائي المغربي سعيد العلام (المغرب العربي).
وعلى الرغم من تصريح الكاتبين بأنّ عملهما موجَّه إلى "الرّوائي الناشئ، وكاتب المستقبل" (ص 5)، فإنّ الكتاب بشكل مضمَر موجّه إلى "الناقد الناشئ" أيضا؛ لأنه يقدم في ثناياه توجيهاتٍ تتعلّق بالمفاهيم وبعض الأخطاء و"الأعطاب التقنية" (لغوية، إملائية، نحو وإعراب وصرف...) التي تعتور أعمال هؤلاء "الكُتّاب النّاشئين"، وقد استدلّ على ذلك بنماذج وأمثلة دون أن يشير إلى عناوين هذه "الأعمال الروائية" ولا إلى أصحابها، بينما يقدّم الشقّ التطبيقيّ أنماطا ونماذج لدراسة هذه النصوص الروائية يمكن احتذاؤها والنسج على منوالها، أو الاستفادة منها في تحليل نصوص سردية مماثلة. والكِتَاب يقدم، أيضا، مجموعة من المصطلحات السردية، ويقوم بتعريفها، ثمّ بتنزيلها على "مدونة الاشتغال" مما يُغنى (الناقد الناشئ) عن العودة إلى مظان أخرى ربّما أكثر تعقيدا، وأقل إتاحة.
ولهذا نعتبر كتاب "كتابة الرواية" غيرة أدبية على النص السردي، وقد حمل الكتاب مجموعة من المواقف والأحكام التي تُشعِر القارئ بذلك. ومن حسنات هذا الكتاب أيضا أنه يُجسِّر التواشجات بين النّقدين الأدبي (الفني) والنقد الثقافي ما دام الدكتور المصباحي يعتبر أن النقد الثقافي امتداد للأول دون تعارض أو قطيعة إبستيمية. وقد حبل الكتاب بمجموعة من المصطلحات السردية التي لا يتسع المجال لبسطها والوقوف عندها.
ومما يجدر التنبيه إليه أنه رغم ما يمكن تصوّره حول هذا الكتاب من أنه دراسة نقدية سردية تتوسل بالأدوات والوسائل البنيوية فهناك حضور أيضا لآليات ومصطلحات النقد الثقافي لعل أبرزها رمزية الفضاء التخييلي والسردي في هذه الروايات الثلاث، بالإضافة إلى استثمار المصباحي لمفهوم "التمفصل" ومفهوم "التقاطبية" ومفهوم "الشمولية" الذي أخرجه من مفهومه الواسع في دراسة العلاقات الاجتماعية إلى دراسة العلاقات بين الأفراد من خلال تنزيله على شبكة العلاقات بين شخصيات كل رواية على حدة، كما باشر، أيضا، تفكيكا للخطاب السلطوي مجسّدا، مثلا، في "المؤسسة الإدارية" (رواية ميهود والجنية)، أو "المؤسسة السياسية" (رواية "حدث في الإسكندرية"). وأخيرا نطرح سؤالين نراهما مستفزّين: إذا لم تكن الرواية نسقا ثقافيا يجمع بين الواقعي أحيانا، والسيري أحيانا أخرى، والتخييلي دائما، فماذا ستكون إذًا؟ ثمّ هل يمكن أن نتحدث عن "سرديات ثقافية" في مقابل "سرديات بنيوية"؟
من فتنة الجمال إلى مساءلة الخطاب: رؤى عبد الرزاق المصباحي النقدية
تناولت مداخلة الباحثة جهان عروف (باحثة من جامعة السلطان مولاي سليمان) المشروع النقدي للناقد الثقافي عبد الرزاق المصباحي من خلال محورين أساسيين: فتنة الجمال ومساءلة الخطاب، مبرزةً كيف جمع الناقد بين الحسّ الجمالي والتحليل الثقافي في قراءته للنصوص السردية العربية. فقد اشتغل على نصوص متنوعة زمنيًا وجغرافيًا، مستخدمًا أدوات سيميائية وثقافية لتفكيك ثنائية الهوية والانتماء، ويقوم مشروعه على مساءلة المفاهيم والخطابات السائدة، متجاوزًا القراءة الجمالية التقليدية نحو تفكيك البنى المعرفية والثقافية، مما يبرز وعيًا نقديًا متجددًا يربط بين الأدب والسلطة والهوية. بذلك، يتموقع الناقد عبد الرزاق المصباحي، كصوت نقدي متميز في المشهد العربي، بمشروع معرفي يتكامل فيه الفني والثقافي، ويؤسس لرؤية نقدية عربية منفتحة على المناهج المعاصرة دون أن تغفل خصوصيات السياق المحلي.
مرتكزات النقد الثقافي ومرجعياته عند الدكتور عبد الرزاق المصباحي
استهلّ الباحث كريم عبد الرحمان (باحث من جامعة السلطان مولاي سليمان) مداخلته بأهمية التجربة النقدية عند الناقد عبد الرزاق المصباحي باعتبارها صرحا نقديّا مشيّدا على أسس متينة ومرتكزات ومرجعية متجذرة وعريقة؛ تتأرجح بين ما هو فلسفي، وما هو اجتماعي، وما هو نفسي، وما هو منطقي... وأوّل ما ركّز عليه الباحث هو فلسفة ليتش باعتبارها نموذجا نظريا يعالج موضوع الخطابات والأنساق في عصرنا الراهن؛ هذا العصر المتسم بالميديا وتعدد الوسائط بفعل الثورة الرقمية والتكنولوجية التي نعيشها اليوم، والتي أحدثت قفزة نوعية في مجال التواصل حتى تشابكت الأنساق وتعددت الخطابات مما يستدعي مساءلة نقدية ثقافية، هنا تكمن الحاجة إلى النقد الثقافي الذي لم يكن وليد الصدفة أو محطة اعتباطية؛ بل هو خيار استراتيجي نهجه رجل أكاديمي فذّ بعدما استلهم مبادئه من مرجعيات مختلفة تعتبر فلسفة ليتش أهمّها.
يتجلّى المرجع الثاني في مدرسة فرانكفورت؛ حيث بنى الناقد المصباحي صرحه النقدي مستفيدا من الصيغة التي اقترحها الناقد تيودور أدورنو حين اعتمد صيغة ثورية دعت إلى مواجهة التجبّر مع التركيز على القيم والمبادئ التي تشكّل موضوعا للنقد الثقافي حسب أدورنو، هذه المسألة أغفلها الناقد السعودي عبد الله الغدامي في تأصيله للنقد الثقافي، بالتالي انطلق المصباحي من مساءلة أدورنو باعتباره واحدا من مؤسّسي مدرسة فرانكفورت؛ لأنّ الكتاب الذي ألفه أدورنو بالاشتراك مع ماكس هوركهايمر شكّل قاعدة أساسية في تأسيس المشروع النقدي للدكتور عبد الرزاق المصباحي.
بناء على مرتكزات مدرسة فرانكفورت قارن الدكتور المصباحي بين البنى الفوقية والتحتية وبين الثقافة الشعبوية وثقافة النّخبة والثقافة الدنيا والعليا، هذه المسألة، بشكل عام، تشكل ثنائية المركز والهامش من خلال المحتوى الخاص بكل فئة وهو محتوى يجمع الفنون على اختلاف درجاتها في تصنيف واحد مع التركيز على التسلية والاستهلاك الجمالي الذي يوهمنا بالسعادة لكنها ليست حقيقية؛ بل كاذبة. والحق أن الناقد المصباحي ركز على مسألة مهمة وراهنة وهي تأثير التكنولوجيا على المجتمعات العربية عموما والمغربية خصوصا؛ فالمجتمعات التي بلغت شأوًا كبيرا من التطور والتحضّر تساهم في تنميط الفكر الإنساني وتدجينه وقولبته ضمن أشكال جاهزة بعد إفراغه من النقد والمساءلة، فالمجتمع الصناعي يهدف دوما إلى تعطيل العقل والنقد وأدوات الرقابة.
ومن أهمّ المدارس التي تأثر بها مشروع المصباحي (مثقفي نيويورك)؛ هذه المدرسة التي تميزت برفضها للتصور الماركسي ومعارضتها للستالينية التي تعقد ربطا آليا بين الجانبين الأدبي والسياسي، كما تميزت كذلك بجرأتها وقدرتها عل نقد جميع التصورات التي تُفقِد الأدب ماهيته، خاصة، ما يتعلق بالجانب الشكلي والجمالي، ومن أهم روادها إرفينج هاو وليونيل تريلينغ، وقد سعت هذه المدرسة إلى التحرّر من بعض الجوانب النظرية للماركسية خصوصا ما يتعلق بالأسلوبية والجمالية؛ حيث جمعواْ بين سياسة اليسار والطليعة في الأدب فضمِنوا للأدب حقَّه في التجديد والتطور من حيث أنساقه الفنية والجمالية، وهذا ما عبر عنه إرفينج هاو بطريقته الخاصة، بالتالي أكد الباحث المصباحي أن جماعة (مثقفي نيويورك) جمعت بين الجوانب الشكلية والجمالية والإيديولوجية مع التركيز أكثر على الجوانب الجمالية، هذه المسألة جُعلت قاعدة أساسية عند المصباحي في كشف العلاقة بين النقدين الأدبي والثقافي.
كما شكلت الدراسات الثقافية البريطانية منعطفا جوهريا حاسما في مسار الدراسات الثقافية عند الدكتور المصباحي من حيث التأصيل للمفهوم، أوّلًا، ثم جعله عالميا ثانيا عبر جهود (مركز برمنغهام للدراسات الثقافية)، ولعلّ أهم التعبيرات الدالة في هذا السياق تشبيه كولن سباركس الدراسات الثقافية بحقيبة الظهر التي تحمل أفكارا ومناهج في النقد الأدبي، السوسيولوجيا، التاريخ، دراسة الميديا، وكل ذلك ينضوي تحت لافتة الدراسات الثقافية، هذا الطرح سبق وأن ألمح إليه (مثقفو نيويورك) خاصة تريلينغ حين تحدث عن وفرة منهجية تضم الشكلية، والتحليل الجمالي، ودراسة النوع، والبيبليوغرافيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والنقد الأخلاقي، والأسلوبيات، والنقد التقويمي، والظاهراتية... هذه العناصر تشكل في ذاتها استراتيجية نقدية متكاملة في النقد الثقافي.
ومن ضمن المرتكزات والأسس التي بُني عليه مشروع المصباحي فلسفة مشيل فوكو؛ فكل المفاهيم التي جاء بها فوكو يمكن توظيفها في تفكيك أنساق السلطة ومنها مفهوم الخطاب في طابعه المركب، فالخطاب يحتوي عل طبقات خفية تتدثر فيها السلطة، هذا المفهوم ينظر إليه فوكو على أنه حقيقة معاصرة وهي سمة المجتمعات الراهنة، وبالتالي لابد من مساءلة الثقافة وربطها بالنقد قبل فوات الأوان، خاصة عندما ظهر مجتمع الانضباط القائم على التهذيب بدل العقاب الجسدي، والتهذيب شكل مختلف عن التعذيب، لقد تميزت فلسفة فوكو الفكرية والنقدية بالتنوع، حيث تأثر بستراوس، والبنيوي، والتّفكيكي، ورولان بارط...كما انغمس في الدراسات النفسية؛ لأنه عالم نفس، إضافة إلى تأثره بالفيلسوف نيتشه في تحديد مفهوم السلطة، لذلك جمعت مقاربته بين التحليل البنيوي، والأنساق الداخلية، وتفسير العلاقة بين الأنساق والسلطة.
ولعل أهم الأسس التي عاد إليها المصباحي "النقد ما بعد الكولونيالي" عند إدوارد سعيد خاصة في خطاب الاستشراق وتمثيلاته المرتبطة بالإمبريالية، هذا الخطاب ساهم في تشويه صورة الآخر المختلف مع القدح في سلوكه وأفكاره. وفي كتابه "الثقافة والامبريالية" قارب إدوارد سعيد خطاب الإمبريالية وإستراتيجيات سلطتها عبر دراسة شكل ثقافي هو الرواية؛ لأنّ مجمل القضايا ومعظمها حُسمت في السرد الروائي، وهذا ما دفع الناقد المصباحي إلى تناول مجموعة من الأعمال السردية بالدراسة والنقد.
لقد استلهم الدكتور المصباحي مجموعة من المبادئ من منجز الناقد السعودي عبد الله الغدامي حين تناول مجموعة من الأعمال الفنية بالدراسة والتحليل من زاوية ثقافية وفي إطار مشروعه النقدي الثقافي وحلل مجموعة من القصائد والروايات والخطابات التخييلية مشيرا إلى أن المكونات الجمالية والأسلوبية سبب في العمى الثقافي الذي يصيب المستهلك الجمالي ويمنعه من الانتباه إلى الأنساق الثقافية المضمرة والمعيبة التي تتسرب إلى المتلقي عبر النصوص دون وعي صاحبها ودون وعي المتلقي كذلك، هذه الفكرة أشار إليها ليتش ويؤكدها الغدامي خاصة فيما يتعلق بالنقد الثقافي باعتباره لا يُؤطر ضمن التصنيف المؤسّساتي للنص الجمالي، لهذا توقّف الغدامي عبر التّحليل الثّقافي عند الشّعرية العربيّة من العصر الجاهلي إلى الحديث، واعتبر هذا الخطاب الفني مشعرنا؛ بمعنى أنه يوظف الجميل قصد التجبر على الآخر وتنميطه ونسخه والتحكم فيه، وهذا ما سماه "جمال الثّقافة في مقابل "صناعة الثقافة" عند أدورنو والمفهوم الأول عند الغدامي وحسب طرحه عنصر حاسم في إحداث التغيير الاجتماعي.
هذا وقد اختتم هذا اللقاء العلمي التكريمي الثرّ بشهادات إنسانية وعلمية واجتماعية في حق المحتفى به الدكتور عبد الرزاق المصباحي تفضل بإلقائها الأستاذان الجليلان حسن الرموتي وهشام جموري
تعليقات
إرسال تعليق